إن ممارسة أنشطة عبادية مشتركة بين أفراد الأسرة في شهر رمضان أمر في غاية الأهمية، (سواء بين الزوج وزوجته، أو بين الأب والأم وبين أبنائهما). يتمثل هذا في عدة أمور، نذكر منها مثلاً:
أولاً: تقوية الأواصر والعلاقات بين جميع أفراد الأسرة، فالاجتماع على العبادة فيه بركة غير طبيعية تنعكس على زيادة المحبة والمودة بين البشر، فكيف لو كانوا من أسرة واحدة، ولديهم استعداد فطري أصلاً لهذا الحب. والفرصة تكون مناسبة جدا في هذا الشهر لمثل ذلك، فربما لا تستطيع الأسرة أن تلتقي ولا يسمح وقتها في الأيام العادية كما يلتقون في هذا الشهر المبارك، بسبب ضغط العمل ومواعيد الدراسة وما شابهها، لذا كان شهر رمضان فرصة مثالية لتقوية العلاقات والمشاركة في العبادات والأنشطة الدينية.
ثانيًا: قدرة هذا الاجتماع على الإعانة على فعل الخير، فالجماعة يشجع بعضهم بعضًا ويمنحون بعضهم الطاقة ويطردون عنهم الكسل، فهي محفز كبير على الطاعات والإكثار منها في هذه الأيام التي تتضاعف فيها الحسنات. خاصة الأبناء الصغار، فحينما يرون الآباء يقومون بالطاعات يقتدون بهم ويتحمسون لمزيد من الطاعات.
ثالثًا: البعد التربوي، فاجتماع الآباء مع الأبناء على عمل الخير في هذه الأيام يعطي الآباء فرصة لغرس كثير من المعاني الإيمانية والتربوية في نفوس الأبناء بصورة مكثفة أكثر من الوضع في الأيام العادية، فالاجتماع على تلاوة القرآن وصلاة التراويح وتدبر الآيات ومواقف السيرة، كل هذا يمنح المربي فرصة ممتازة ربما لا تتوافر في شهر آخر.
ولكن أشير هنا إلى أنه مع هذه الفائدة الكبيرة لاجتماع الأسرة على العبادات، فمن المهم أيضًا أن يخصص الإنسان وقتًا يخلو فيه بنفسه، ويتعبد فيه وحده، فإذا أمكن له مثلاً أن يصلي بالليل ولو ركعتين بتركيز وخشوع فهو جيد، وأن يخصص لنفسه ختمة خلال الشهر يقرؤها بتدبر بعيدًا عن الختمة التي يخصصها لأسرته، فهو أفضل، وهكذا. فيجعل لنفسه وقتًا يتعاهد فيه قلبه بالتربية والإرواء لتتحقق له ثمرة التقوى في هذا الشهر الكريم.
إن كل أعمال الإنسان لا بد أن يخطط لها بشيء من الاحترافية لكي يحصل على النتيجة التي يتمناها، وأولى الأوقات لذلك هو هذا الشهر الكريم، فيضع لنفسه خطة واضحة المعالم، ومتدرجة في القوة والسرعة ومعدل الإنجاز، بحيث يبدأ في العشر الأول بسرعة وقوة بسيطة، ثم قوة وسرعة متوسطة في العشر الأواسط، ثم ينطلق في العشر الأواخر بقوته وسرعته القصوى، تمامًا كما يفعل المتسابقون في سباقات الجري أو التحديات الرياضية، فتجدهم يتدرجون في السرعة حتى يصلوا إلى الذروة في نهاية السباق.
وجيد أن نحذر هنا من نقطة في غاية الأهمية، وقد تسبب تكاسل المسلم بعد مرور عدة أيام، فأحيانًا يتحمس الشخص عند قدوم الشهر الكريم دون استعداد مسبق في شهر شعبان مثلاً، فينتقل من حالة الخمول الكامل إلى مرحلة العبادة الكاملة والضرب بأسهم كثيرة في كافة مضامير السباق الرمضاني، وبعد مرور عدة أيام يتعب ويمل لأن جسده لم يتعود، ولا حتى نفسه تعودت، فيحدث انتكاس وقعود تام. ولنتأمل هذا الحديث النبوي وإن كان في صحته كلام لكن معناه صحيح: "إِنَّ هذا الدينَ متينٌ، فأوْغِلْ فيه برِفْقٍ، فإِنَّ الْمُنبَتَّ لا أرضًا قطعَ، ولَا ظهْرًا أبْقَى". فالتحول في العبادة من حالة الخمول الشديد إلى الحالة المناقضة من النشاط والحركة قد يتسبب في انتكاسة، تمامًا كالذي يحفز فرسه على أن يقطع مسافة الطريق بالكامل في نَفَس واحد، فإنه يُهلك فرسه، فلا هو حافظ على حصانه، ولا هو وصل إلى وجهته.
برنامج أسري تطبيقي في رمضان:
كل أسرة لها ظروفها التي تختلف عن أي أسرة أخرى، لكن بشكل عام يمكننا وضع ملامح برنامج أسري عام يحقق الأهداف التي ذكرناها في البداية لاستغلال هذا الشهر الكريم وكل أسرة يمكنها توفيقه بناءً على ظروفها..
فأولاً: الاستيقاظ قبل وقت السحور بحوالي ساعة، وتجتمع الأسرة على أداء ركعتي تهجد ولو خفيفتين.
ثانيًا: تجهيز السحور، وتوزيع المهام على كافة أعضاء الأسرة مهما كانوا صغارًا، فحتى الصغير يكلف بمهمة صغيرة تناسب سنه، حتى يكون الجميع قد شارك في الأجر.
ثالثًا: بعد السحور تجتمع الأسرة على صلاة الفجر، إما بالخروج إليها في المسجد أو في المنزل، والأفضل أن تكون في المسجد.
رابعًا: تلاوة القرآن في حلقة معًا لمدة نصف ساعة بعد صلاة الفجر، ثم التجهز للذهاب إلى المدرسة والعمل. وقبل الخروج يصلي الجميع صلاة الضحى.
خامسًا: خلال وقت العمل ووقت الدراسة إن سمح الوقت وظروف العمل والدراسة بتلاوة القرآن فالاجتهاد فيه جيد، وإن لم تسمح ظروف العمل بذلك فالعمل أولى.
سادسًا: الوقت من ساعة العودة وحتى وقت صلاح العصر وقت حر للراحة أو النوم أو التلاوة، كل حسب رغبته.
سابعاً: الاجتماع على صلاة العصر، وبعدها وقت للاجتماع على تلاوة القرآن لمدة ساعة مع التدبر واستخراج المعاني الإيمانية من الآيات. ويستحسن لو يجهز الأب لذلك مسبقًا بحيث يكون جاهزًا لأسئلة الأطفال.
ثامنًا: حتى أذان المغرب وقت حر، لتجهيز الإفطار والمشاركة فيه أو التلاوة الفردية والدعاء. ثم الاجتماع على صلاة المغرب وعلى وجبة الإفطار.
تاسعًا: من بعد الإفطار التجهز لصلاة العشاء والتراويح ثم الاجتماع عليهما في المسجد. وبعد العودة تلاوة جزء من القرآن لمدة نصف ساعة، ثم الجلوس لدرس يومي يتغير موضوعه بالتبادل (معاني الأسماء الحسنى - السيرة النبوية - أخلاق المسلم) لمدة نصف ساعة أيضًا.
عاشرًا: النوم والراحة حتى موعد السحور.
بهذا نكون ملأنا اليوم بالكامل بأنشطة وعبادات لطيفة، فيها قدر من التركيز على المعاني الإيمانية والتربوية وفي نفس الوقت فيها مشاركة وجدانية مع كافة أفراد الأسرة، وسيتخللها بالتأكيد حوارات ومناقشات تقرب الأسرة من بعضها.
وبمرور أيام رمضان يمكن تكثيف هذه الجرعات بشكل تدريجي حتى نصل إلى مرحلة الاعتكاف، فيقضى اليوم كله في العبادات والخلوة مع الله سبحانه وتعالى.