المصالح والمفاسد وتغير الفتوى
تاريخ النشر: 16 جمادى الآخرة 1445هـ الموافق 29 ديسمبر 2023م
عدد الزيارات : 294
إنشر المقال :
جاءت الشريعة الإسلامية الغراء ساعية في مصالح العباد ومنافعهم ودرء المفاسد والأضرار عنهم، وهذا الشيء يعلمه كل من له أدنى مطالعة لأصلي التشريع في الإسلام -الكتاب والسنة-، فالله -جل وعلا- يحب المحسنين ويبغض المسيئين المفسدين، ويدعو سبحانه إلى التآزر والتعاضد في فعل الخير والمصلحة، وينهى عن الشر والمفسدة، قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (المائدة 2).
كما بيّن سبحانه أن شرعته المحكمة ليس المراد منها تعذيب الناس وتعنيتهم أو جلب الحرج لهم، بل على العكس من ذلك جاءت التشريعات للتيسير ورفع الحرج والمشقة، قال -جل شأنه-: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (الحج: 78).
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا، كما أن السنة النبوية أولت هذا الموضوع اهتمامها حتى غدت الدعوة الصريحة إلى فعل الصالحات النافعات ومجانبة السيئات المفسدات المرتكز الأوفر حظًا في التوجيهات النبوية الكريمة، وما حوته دواوين السنة المطهرة خير شاهد على ما نقول.
ولا شك أن رجحان المصالح على المفاسد أو العكس يوفر الكثير من الجهد والوقت؛ إذ يقبل الناس على المصلحة ويدعون المفسدة، ولكن قد يحدث أن تتقارب الآثار المترتبة على كل من المصلحة والمفسدة في أمر ما، وعندئذ يكون الأمر في حاجة إلى موازنة راشدة تأخذه في اعتبارها ملابسات ومآلات لا يمكن بحال الترجيح والتغليب من دون استصحابها أثناء النظر.
وأصل ذلك المنهج الداعي إلى الموازنة بين المصالح والمفاسد حدد لنا أطره ورسم معالمه رسولنا الكريم e في مواضيع شتى من سنته، منها ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا عائشة: لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزمتها بالأرض، وجعلت لها بابين بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة). قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه صلاحهم، ولو كان مفضولًا ما لم يكن محرمًا، وعلى هذا فالضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه، وإذا كان لابد من ارتكاب أحد الضررين فيرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، ويحتمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأكبر، ويحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وكذلك تقدم المصلحة الكبرى على المصلحة الصغرى، وتقدم مصلحة الأمة على مصلحة الفرد، وتقدم المصلحة المتيقنة على المصلحة المظنونة أو المتوهمة، وتقدم المصلحة الدائمة على العارضة أو المنقطعة).
من كل ما تقدم -على وجازته- يتبين لنا أن الفتوى ربما تغيرت بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، طلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة، فإن الشريعة، كما يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: (مبناها وأساسها على الحكم ومصلحة العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل).