إلى متى؟ وقفة للمحاسبة
تاريخ النشر: 18 ذو الحجة 1445هـ الموافق 25 يونيو 2024م
عدد الزيارات : 238
إنشر المقال :
كل ورقة نحذفها من قصاصات (رزنامة) التاريخ، هي في الحقيقة جزء من أعمارنا يتم حذفه، ومسافة مقدرة لنا يتم تقليصها، أما اليوم المحذوفة ورقته فهو نفس اليوم، الأحد هو الأحد، و الاثنين هو الاثنين، غير أن (اثنين) عشر سنوات خلت من حياتنا ليس هو (اثنين) هذه السنة، ذاك (الاثنين) كنا فيه شبابًا، (اثنين) اليوم علا رأسنا فيه الشيب، و(اثنين) الأعوام القادمة سيتقوس فيه منا الظهر، هذا إن أمهلنا الموت ولم يتخطفنا، نعم.. كل يوم يمر من حياتنا نخطو به خطوة نحو مصيرنا المحتوم: القبر، أول منازل الآخرة .
وإن كان لنا من وقفة مع مرور السنة الماضية، فإن جوهر هذه الوقفة ينبغي أن ينصب حول خلاصنا الذاتي، خلاص في الدنيا، وخلاص في الآخرة.. هو إذًا وقفة للتأمل، للمحاسبة، للمراجعة، لحظة لطرح السؤال التالي: إلى متى؟ بمرور هذه السنة قد يكون مضى على المدخن أربعون عامًا وهو يلقم فمه ورئته قطرانًا ونيكوتينًا وسمومًا، فإلى متى؟
قد يكون مضى على تارك الصلاة خمسون عامًا، أو أقل، أو أكثر، وهو لم يسجد لله سجدة واحدة، فإلى متى؟ قد يكون مضى على قاطع الرحم سنوات من القطيعة، وقس على هؤلاء المرتشي، والمرابي، والمشّاء بين الناس بالنميمة والغيبة، ومحاربة الله ورسوله والصالحين المصلحين ..
ثم هو وقفة للخلاص الجماعي، أن يسأل المرء نفسه ما الذي قدمه لنهضة أمته الإسلامية، ونصرة دينه؟ ما الذي تركه من بصمات خير ونماء -ولو كانت قليلة- في جدار استئناف حياة العزة والكرامة؟ له أن يسأل: ما حظ فلسطين -قضيتنا المركزية- من ماله وجهده وسعيه؟ ما حظ المستضعفين من المسلمين من إنفاقه وتفكيره؟ إلى متى سيستمر هذا التبلد الشعوري نحو صراخ الأطفال وآهات الثكالى؟ إلى متى هذه العقلية الانسحابية المتخاذلة؟!..
والأمر الذي لا نشك فيه لحظة واحدة هو أن الله حافظ دينه، ناصر لأوليائه، قاصم ظهور أعدائه، كفيل بالدين وأهله، بنا أو بدوننا، لكن أن يكون التمكين بك فهو قمة الشرف لك، وهو قبل ذلك تكليف من الله جل في علاه، قال تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)، والقتال هنا يحمل على جميع الأوجه، فهو قتال للدفاع عن الأوطان، وقتال لمحاربة الفقر، وقتال لمحاربة الجهل، وقتال لمحاربة الظلم والفوارق الظالمة.
وجوهر دلالات الآية الكريمة أن من انخرط في هذه الأسلاك والمقامات، فهو عند الله مسجل في ديوان المحبوبين، ولاشك أن هناك فرقًا واسعًا شاسعًا بين مقام (المحب) ومقام (المحبوب)..
ثم إن الله تعالى يحب لهؤلاء أن يكونوا على قلب رجل واحد بقوله: (صفًا كأنهم بنيان مرصوص).. فليس بالضرورة أن ينتظم الجميع في هيكل تنظيمي واحد، بل الأهم من ذلك أن ننتظم جميعًا فيما يسميه علماء الاجتماع بـ(العقل الجمعي الواحد)، وأقصد به هنا العقل الجمعي الذي لا يرتضي غير الله ربًا، لا يفخر بغير الإسلام دينًا، ثم بعد ذلك يسعى -كلٌّ من ثغرته وفي مكانه وضمن مقامه- نحو الخير والصلاح، والبناء والإعمار والإصلاح .
إن ما نراه من مظاهر الاعتداء على حرمات الأمة و مقدساتها وأراضيها وشعوبها، رغم أنه يحز في القلب، ولا يبعث على راحة البال، غير أنه محنة تخفي ورائها منحة، ولعل أجل هذه المنح وأعظمها، ما نراه من يقظة إسلامية مباركة عارمة، وعودة صادقة لكثير من شباب الأمة وبناتها إلى الدين -عقيدة وعبادة وأخلاقًا-، ثم هذا التطور في فكر الأمة للأخذ بالأسباب الكونية والشرعية، كل هذا وغيره كثير، يعتبر من البشائر التي تجعل ثقتنا بالله عظيمة، وأن بعد العسر يسرًا، تمامًا كمخاض المرأة الحامل، وما يعقب ذلك من أوجاع وصداع، ما يلبث يصبح من حديث الماضي بعد رؤية المولود في أبهى خلقة.